زكي نجيب محمود
وصف ياقوت الحموي في كتابه معجم الأدباء أبا حيان التوحيدي بأنه فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة؛ لأنه كان أديبا موسوعيا يحاول مزج الفلسفة بالأدب، وأن يقدم خلاصة ذلك للناس ليكون قريبا من أفهامهم. والوصف الذي أطلقه ياقوت الحموي يكاد لا ينطبق على أحد من أعلام النهضة الأدبية في مصر إلا على زكي نجيب محمود، فقد نجح في تقديم أعسر الأفكار على الهضم العقلي للقارئ العربي في عبارات أدبية مشرقة، وفكّ أصعب مسائل الفلسفة وجعلها في متناول قارئ الصحيفة اليومية، واستطاع بكتاباته أن يخرج الفلسفة من بطون الكتب وأروقة المعاهد والجامعات لتؤدي دورها في الحياة. ولد زكي نجيب محمود في بلدة ميت الخولي عبد الله، بمحافظة دمياط. تخرج من كلية المعلمين العليا بمصر عام 1930. في عام 1933 بدأ في كتابة سلسلة من المقالات عن الفلاسفة المحدثين في مجلة الرسالة. وفي عام 1936 سافر إلى إنجلترا في بعثة صيفية لمدة ستة شهور. وفي عام 1944 سافر إلى إنجلترا للدراسات العليا. وبعد عام واحد حصل على البكالوريوس الشرفية في الفلسفة من الدرجة الأولى من جامعة لندن (وكانت تحتسب في جامعة لندن آنذاك بمثابة الماجستير لكونها من الدرجة الأولى). عام 1947 حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة لندن (كلية الملك) في موضوع (الجبر الذاتي)، بإشراف الأستاذ هـ.ف. هاليت. (وقد ترجم البحث إلى اللغة العربية الدكتور إمام عبد الفتاح بنفس العنوان عام 1973). عاد إلى مصر عام 1947 والتحق بهيئة التدريس بقسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة (جامعة فؤاد الأول آنذاك). سافر عام 1953 إلى الولايات المتحدة أستاذاً زائراً ومحاضراً في جامعتين بها حيث قضى فصلاً دراسياً في كل منهما. وبعد عام اختير مستشاراً ثقافياً لمصر بالولايات المتحدة لمدة عام. في عام 1956 تزوج من الدكتورة منيرة حلمي، أستاذة علم النفس بجامعة عين شمس. سافر إلى الكويت أستاذا بقسم الفلسفة بجامعتها لمدة خمس سنوات (حتى 1973). عام 1973 بدأ كتابة سلسلة المقالات الأسبوعية في جريدة الأهرام. مرت حياة زكي نجيب محمود الفكرية بثلاثة أطوار، انشغل في الأولى التي امتدت حتى سفره إلى أوربا بنقد الحياة الاجتماعية في مصر وتقديم نماذج من الفلسفة القديمة والحديثة والآداب التي تعبر عن الجانب التنويري، ويتمثل هذا النشاط في الكتب الثلاثة التي اشترك في تأليفها مع أحمد أمين والتي أشرنا إليها من قبل. وبدأت المرحلة الثانية بعد رجوعه من أوربا وامتدت حتى الستينيات من القرن العشرين، وفي هذه الفترة دعا زكي نجيب إلى تغيير سلم القيم إلى النمط الأوربي، والأخذ بحضارة الغرب وتمثلها بكل ما فيها باعتبارها حضارة العصر، ولاشتمالها على جوانب إيجابية في مجال العلوم التجريبية والرياضية، ولها تقاليد في تقدير العلم وفي الجدية في العمل واحترام إنسانية الإنسان، وهي قيم مفتقدة في العالم العربي. أما المرحلة الثالثة فقد شهدت عودته إلى التراث العربي قارئا ومنقبا عن الأفكار الجديدة فيه، وباحثا عن سمات الهوية العربية التي تجمع بين الشرق والغرب وبين الحدس والعقل وبين الروح والمادة وبين القيم والعلم. العودة إلى الجذور وفي هذه المرحلة دعا إلى فلسفة جديدة برؤية عربية تبدأ من الجذور ولا تكتفي بها، ونادى بتجديد الفكر العربي، والاستفادة من تراثه، وقال: إن ترك التراث كله هو انتحار حضاري؛ لأن التراث به لغتنا وآدابنا وقيمنا وجهود علمائنا وأدبائنا وفلاسفتنا، وكان يتمنى ألا نعيش عالة علي غيرنا، وإنما نشارك في هذا العالم بالأخذ والهضم والتمثيل ثم إعادة إفراز ما أخذناه مثلما فعل المسلمون حينما أخذوا العلم والفلسفة الإغريقية وهضموها ثم أفرزوهما وزادوا عليهما زيادات مهمة. وكان يرى أن السر وراء تخلف العالم الإسلامي المعاصر هو أنهم يكتفون بحفظ القرآن الكريم وترديده دون العمل بما يشير إليه من وجوب العلم بالكون وظواهره، فإذا تنبه المسلم بأن البحث العلمي في ظاهر الكون من ظاهرة الضوء إلى الصوت إلى الكهرباء والمغناطيسية والذرة، كل ذلك يشجع عليه ديننا، وإذا أيقن أن البحث فرض ديني، لكان المسلم الآن هو صاحب العلم وجبروته، ولكان الآن من راكبي الصاروخ وغزاة الفضاء، وكان هو الآن صاحب المصانع التي تأخذ من البلاد المتخلفة موادها الخام بأقل ثمن، ثم تردها إليه مصنوعات بأغلى سعر، فيكون الثراء من نصيبه والفقر من نصيب الآخرين، لكن المسلم لم يعقل ذلك كله وظن أن العبادة وحدها هي الأمر الإلهي. الإعتزاز بالأسلاف ودعا زكي نجيب محمود إلى الإعتزاز بالأسلاف، وأن الأمر لا يقتصر على فقهاء الدين، بل يجب أن نضيف إليهم الأسماء اللامعة لعلماء الرياضة والطب والكيمياء والفلك والمؤرخين والرحالة والشعراء والفلاسفة، فهؤلاء جميعا قد وجهوا جهودهم نحو الكون يقرءون ظواهره ويستخرجون قوانينها، ثم أصابنا الجمود منذ القرن الخامس عشر الميلادي. ودعا إلى جعل إسلامنا على النحو الذي كان عليه إسلام الأسبقين فيما يختص بالحياة العلمية، فقد كان عالم الرياضة أو الكيمياء أو الطب مسلما وعالما بإضافة واو العطف بين الصفتين، بمعنى أن اهتمامه بالفرع الذي يهتم به من فروع العلم الرياضي والطبيعي كان جزأ من إسلامه، أو بعبارة أخرى كانت العبادة عنده ذات وجهين يعبد الله بالأركان الخمسة ويبحث في خلق السماوات والأرض وما بينهما كما أمره القرآن الكريم، وبهذه النظرة يكون مخرج المسلمين من مأساتهم الحالية. تراثه الفكري ترك زكي نجيب محمود أكثر من أربعين كتابا في ميادين مختلقة من الفكر والأدب والفلسفة، في مقدمتها: حياة الفكر في العالم الجديد، برتراند راسل، وديفيد هيوم، والشرق الفنان، وقشور ولباب، وتجديد الفكر العربي، المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري، ورؤية إسلامية، وجنة العبيط. إلى جانب المناصب الهامة التي شغلها، والكتابات الغزيرة الهامة التي أصدرها، وتأثيره على عدد كبير من تلامذته في مصر والعالم العربي إلى اليوم، فقد كان الدكتور زكي نجيب المدشّن الأول لتيار الوضعية المنطقية في مصر والعالم العربي والإسلامي، في كتبه: المنطق الوضعي من جزئين، وخرافة الميتافيزيقا، ونحو فلسفة علمية، وغيرها، كما كان صاحب أسلوب أدبي متماسك وأنيق يخلق صلة بين الوعي الفلسفي والذوق الأدبي.